كيفية التعامل مع الآخرين بلباقة واحترام. النصيحة الفردية، إذا ما أُعطيت بحسن نية وفي الوقت المناسب، يمكن أن تُحدث تغييراً كبيراً في حياة الشخص...
النصح والإرشاد من القيم الأساسية في الحياة، ولكن كيف يمكن أن يكون النصح فعالاً؟ هنا تظهر أهمية اختيار الأسلوب المناسب لتقديم النصيحة. هذه الأبيات الشعرية تتناول قضية حساسة في التعامل بين الناس، وهي كيفية تقديم النصيحة بلباقة واحترام للمشاعر. دعونا نستعرض معاني هذه الأبيات ونستكشف الحكمة الكامنة فيها.
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي ×× وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ في الْجَمَاعَه
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ ×× مِنَ التَّوْبِيخِ لا أرْضَى اسْتِمَاعَه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ×× فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
تحليل الأبيات الشعرية
البيت الأول: "تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي ×× وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ في الْجَمَاعَه"
يشير الشاعر هنا إلى أن النصيحة تكون أكثر فعالية وتأثيراً إذا ما قُدمت في لحظة انفراد. فالنصيحة في العلن قد تُحرج الشخص وتجعل من النصح شكلاً من أشكال اللوم، مما يؤدي إلى رد فعل دفاعي أو حتى مقاومة للنصيحة.
البيت الثاني: "فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ ×× مِنَ التَّوْبِيخِ لا أرْضَى اسْتِمَاعَه"
يؤكد الشاعر في هذا البيت على أن تقديم النصيحة أمام الناس قد يتخذ شكل التوبيخ أو اللوم العلني، وهو ما يرفضه الشاعر تماماً. من الطبيعي أن يكون الإنسان حساساً تجاه نظرة الآخرين له، لذلك فإن توجيه النصيحة أمام جمع من الناس يمكن أن يضر بكرامة الشخص ويجعله يشعر بالخجل.
البيت الثالث: "وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ×× فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه"
هنا يقدم الشاعر تحذيراً بسيطاً: إذا تم تجاهل طلبه بعدم تقديم النصيحة علناً، فلا ينبغي أن يتفاجأ الشخص إذا لم تُقبل النصيحة أو لم تُطاع. فالتواصل الجيد والاحترام المتبادل في تقديم النصيحة قد يكونان العاملين الحاسمين في قبول النصيحة من عدمه.
الحكمة من النصيحة الفردية
القيمة الجوهرية التي تحملها هذه الأبيات تتعلق بالاحترام واللباقة في تقديم النصائح. النصيحة ليست مجرد كلمات تُلقى، بل هي فعل يحتاج إلى توقيت ومكان مناسبين، والأهم من ذلك، يحتاج إلى النية الحسنة. عندما يُدرك الشخص أن النصيحة تأتي من منطلق المحبة والرغبة في الإصلاح، وأنها مُقدمة بعيداً عن الأنظار لحفظ ماء الوجه، يصبح من الأسهل قبولها والعمل بها.
قصة ملهمة تتعلق بالنصيحة الفردية
في أحد الأيام، وبينما كانت شمس الأصيل ترسل أشعتها الذهبية على أطراف المدينة القديمة، خرج الحكيم مع تلميذه ليجولا في أسواقها، حيث يعج المكان بالحركة، والباعة ينادون على بضائعهم، والأطفال يجرون في الأزقة الضيقة. كان الحكيم يستمتع بهذه اللحظات، فهي تتيح له مراقبة الناس، واستخلاص الدروس من أبسط المواقف.
وبينما هما يسيران بين البسطات المزدحمة، لفت انتباههما رجلٌ واقف وسط السوق، يصرخ بصوت عالٍ على صديقه. كان الرجل يوبخ صديقه على خطأ ما ارتكبه، ويعاتبه أمام الجميع. وقف الناس يتفرجون على المشهد، وبعضهم يتهامس بينهم بكلمات لا تخلو من الشماتة أو التندر.
توقف الحكيم عند هذا المشهد، ونظر إلى تلميذه الذي كان يشاهد ما يحدث بدهشة واستغراب. سأله الحكيم: "ما رأيك في هذا الرجل؟" أجاب التلميذ: "يبدو أنه يحاول نصح صديقه، ولكنه يفعل ذلك بطريقة خاطئة."
ابتسم الحكيم وقال: "الحكمة ليست في النصح فقط، بل في كيفية تقديمه." ثم أشار إلى الرجل قائلاً: "هذا الرجل يعتقد أنه يقدم نصيحة، لكنه في الحقيقة يحولها إلى توبيخ وفضيحة."
استغرب التلميذ من كلام معلمه، وسأله: "ولكن يا سيدي، أليس من واجبنا أن نصحح أخطاء الآخرين؟"
رد الحكيم بحكمة: "نعم، من واجبنا ذلك، ولكن ليس أمام الجميع. النصيحة كالدواء، إذا أُعطيت في الوقت والمكان المناسبين، تكون فعالة وتحقق هدفها. أما إذا أُعطيت أمام الناس، فهي كجرح مفتوح ينزف أمام الملأ."
شعر التلميذ بأن هناك درساً عميقاً يكمن في كلمات الحكيم، لكنه لم يكن يدرك تماماً المعنى الذي يقصده. استأنف الحكيم كلامه: "تعال، سأريك كيف يمكن أن يكون النصح فعلاً بنّاءً لا هداماً."
اقترب الحكيم من الرجل الغاضب، وابتسم له بلطف، ثم قال بصوت هادئ: "يا أخي، هل لي أن أحدثك على انفراد؟ أريد أن أشاركك شيئاً قد يساعدك."
توقف الرجل عن الصراخ، ونظر إلى الحكيم بارتباك. كان الجميع ينتظرون ما سيحدث، لكن الحكيم أخذ الرجل إلى زاوية بعيدة عن أعين الناس، وبدأ يتحدث معه بصوت منخفض، مستخدماً كلمات هادئة ولطيفة.
مرت دقائق قليلة، ثم عاد الرجل إلى صديقه الذي كان يقف مكتوف الأيدي في وسط السوق، وبدلاً من أن يكمل توبيخه، وضع يده على كتفه واعتذر منه. كان المشهد مؤثراً، إذ تحولت الأجواء من التوتر والغضب إلى الهدوء والمصالحة.
عاد الحكيم إلى تلميذه، الذي كان يشاهد كل ذلك بإعجاب. سأله التلميذ: "ماذا قلت له يا سيدي؟"
أجاب الحكيم بابتسامة: "قلت له إن النصيحة إن لم تُقدم بلطف وبدون إحراج، فإنها قد تؤذي أكثر مما تنفع. وأخبرته أن صديقه بحاجة إلى توجيه وإرشاد، وليس إلى توبيخ أمام الجميع. عندما فهم ذلك، أدرك خطأه واعتذر."
كان التلميذ مذهولاً من الطريقة التي استطاع بها الحكيم تحويل الموقف من نزاع علني إلى صداقة متجددة. أدرك حينها أن النصح يحتاج إلى حكمة وفطنة، وأن الأهم هو احترام مشاعر الآخرين حتى عندما نرغب في تصحيح أخطائهم.
انتهت جولة الحكيم وتلميذه في السوق بذلك الدرس الثمين، وعاد التلميذ إلى بيته وهو يحمل في قلبه تلك الحكمة التي سترافقه طوال حياته: "النصيحة في الخفاء دواء للنفوس، أما النصيحة أمام الناس فهي كالملح في الجروح.
إن الشعر العربي يحمل في طياته حكماً ودروساً تتجاوز الزمن. هذه الأبيات ليست مجرد كلمات موزونة، بل هي دعوة للتفكر في كيفية التعامل مع الآخرين بلباقة واحترام. النصيحة الفردية، إذا ما أُعطيت بحسن نية وفي الوقت المناسب، يمكن أن تُحدث تغييراً كبيراً في حياة الشخص. لذلك، دعونا نحرص دائماً على أن تكون نصائحنا وسيلة للبناء لا للهدم.